فصل: تفسير الآيات (47- 49):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير الآيات (47- 49):

{وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47) وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49)}
وقوله سبحانه: {وَإِذَا صُرِفَتْ أبصارهم} أي: أبصار أصحاب الأعراف، فهم يسلمون على أصحاب الجنة، وإذا نظروا إلى النار، وأهلها، قالوا: {رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ القوم الظالمين} قاله ابن عباس، وجماعة من العلماء.
وقوله سبحانه: {ونادى أصحاب الأعراف رِجَالاً يَعْرِفُونَهُم بسيماهم} يريد من أهل النار.
{مَا أغنى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ} {ما} استفهام بمعنى التَقْرِيرِ، والتوبيخ، و{ما} الثانية مصدرية، و{جمعكم} لفظ يعم المال والأَجْنَادَ والخَوَلَ.
وقوله سبحانه: {أهؤلاء الذين أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ الله بِرَحْمَةٍ ادخلوا الجنة} أهل الأعراف هم القائلون: {أهؤلاء} إشارة إلى أهل الجنة، والذين خوطبوا هم أهل النار، والمعنى: أهؤلاء الضُّعَفَاء في الدنيا الذين حَلَفْتُمْ أن اللَّه لا يَعْبَؤ بهم، قيل لهم: ادخلوا الجنة.
وقال النقاش: اقسم أهْلُ النَّارِ أن أصحاب الأعراف داخلون النَّارَ معهم، فنادتهم المَلاَئِكَةُ: أهؤلاء، ثم نادت أصحاب الأَعْرَافِ: ادخلوا الجنة.
وقرأ عكرمة: {دخلوا الجَنَّة} على الإخْبَارِ بفعل مَاضٍ.

.تفسير الآيات (50- 53):

{وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (50) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآَيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (51) وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (53)}
وقوله سبحانه: {ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الماء...} الآية: لفظة النداء تتضمن أن أهل النار وَقَعَ لهم علم بأن أهل الجَنَّة يسمعون نِدَاءَهُمْ، وجائز أن يكون ذلك، وهم يرونهم بإِدراك يجعله اللَّه لهم عَلَى بُعْدِ السُّفْلِ من العلو، وجائز أن يكون ذلك، وبينهم السُّورُ والحجاب المتقدم الذِّكْر.
وروي أن ذلك النداء هو عند اطِّلاَع أهل الجنة عليهم.
وقوله سبحانه: {أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله} إشارة إِلى الطعام. قاله السدي.
فيقول لهم أهل الجنة: إن اللَّه حَرَّمَ طعام الجَنَّةِ وشَرَابَهَا على الكافرين، وإجابة أهل الجنة بهذا الحُكْمِ هو عن أَمْرِ اللَّه تعالى.
ومعنى قوله تعالى: {الذين اتخذوا دِينَهُمْ لَهْواً} أي بالإِعْرَاضِ والاستهزاء. بِمَنْ يدعوهم إلى الإسلام.
{وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا} أي: خدعتهم بزخرفها، واعتقادهم أنها الغَايَةُ القصوى.
وقوله: {فاليوم ننساهم} هو من إخبار اللَّه عز وجل عما يَفْعَلُ بهم والنسيان هنا بمعنى التَّرْكِ، أي: نتركهم في العذاب، كما تركوا النَّظَر للقاء هذا اليوم. قاله ابن عباس وجماعة.
وما كانوا عطف على ما من قوله: كما نسوا، ويحتمل أن تقدر ما الثانية زائدة، ويكون قوله: وكانوا عَطْفاً على قوله: نسوا.
وقوله سبحانه: {وَلَقَدْ جئناهم بكتاب} الضمير في {جئناهم} لمن تَقَدَّم ذكره، والكتاب اسم جنس، واللام في لقد لام قَسَم.
وقال يحيى بن سلام: بل الكلام تَمَّ في {يَجْحَدُونَ}، وهذا الضمير لمكذبي نبينا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وهو ابتداء كلام آخر، والمراد بالكتاب القرآن، و{على عِلْمٍ} معناه: على بَصِيرَةٍ.
وقوله سبحانه: {هَلْ يَنظُرُونَ} أي ينتظرون {إِلاَّ تَأْوِيلَهُ}، أي مآله وعاقبته يوم القيامة. قاله ابن عباس وغيره.
وقال السدي: مآله في الدنيا وقعة بَدْرٍ وغيرها، ويوم القيامة أيضاً، ثم أخبر تعالى أن مآل حال هذا الدين يوم يأتي يَقَعُ معه نَدَمُهُمْ، ويقولون تأسُّفاً على ما فاتهم من الإيمان: {قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بالحق}، فالتأويل على هذا من آل يؤول، {وَنَسُوهُ} يحتمل أن يكون بمعنى الترك، وباقي الآية بَيِّنٌ.
* ت *: وهذا التقرير يُرَجِّحُ تأويل ابن سلام المتقدم.

.تفسير الآيات (54- 55):

{إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54) ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55)}
وقوله سبحانه: {إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذي خَلَقَ السموات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ...} الآية خطاب عام يقتضي التوحيد، والحجة عليه بدلائله، وجاء في التفسير، والأحاديث أن اللَّه سبحانه ابتدأ الخَلْقَ يوم الأَحدِ، وكملت المَخْلُوقَاتُ يوم الجمعة، وهذا كله والساعة اليَسِيرَةُ في قُدْرَةِ اللَّه سبحانه سواء.
قال * م *: {فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} {ستة} أصلها سِدْسَة، فأبدلوا من السِّين تاء، ثم أدغموا الدال في التاء، وتصغيره سديس وسديسة. انتهى.
وقوله سبحانه: {استوى عَلَى العرش} معناه عند أبي المعالي وغيره من حُذَّاق المتكلمين: الملك، والسلطان، وخصّ العرش بالذِّكْرِ تشريفاً له؛ إذ هو أَعْظَمُ المخلوقات.
وقوله سبحانه: {أَلاَ لَهُ الخلق والأمر} {ألا}: استفتاح كلام. وأخذ المفسرون {الخَلْق} بمعنى المخلوقات، أي: هي كلها مِلْكُهُ، واختراعه، وأخذوا الأمر مَصْدَراً من أمر يأمر.
قال * ع *: ويحتمل أن تؤخذ لفظة {الخَلْقِ} على المصدر من: خلق يخلق خَلْقاً، أي: له هذه الصفة؛ إذ هو المُوجِدُ للأشياء بعد العَدَمِ، ويؤخذ الأمر على أنه واحد الأمورِ، فيكون بمنزلة قوله: {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأمر كُلُّهُ} [هود: 123] {وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور} [البقرة: 210].
وكيف ما تَأَوَّلَتِ الآية، فالجميع للَّه سبحانه.
و{تبارك} معناه: عظم، وتعالى، وكثرت بركاته، ولا يوصف بها إلا اللَّه سبحانه.
و{تبارك} لا يَتَصَرَّفُ في كلام العرب، فلا يقال منه: يتبارك، و{العالمين} جمع عالم.
قوله عز وجل: {ادعوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المعتدين} هذا أمر بالدعاء، وتعبد به، ثم قرن سبحانه بالأَمْرِ به صفات تحسن معه. وقوله: {تَضَرُّعاً} معناه بخشوع، واستكانة، والتضرع لفظة تَقْتَضِي الجَهْرَ، لأن التضرع إنما يكون بإشَارَاتِ جوارح وهيئات أعضاء تقترن بالطلب، و{وَخُفْيَةً} يريد في النفس خاصة، وقد أثنى اللَّه سبحانه على ذلك في قوله سبحانه: {إِذْ نادى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً} [مريم: 3]، ونحو هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: «خَيْرُ الذِّكْرِ الخَفِيُّ» والشريعة مقررة أن السر فيما لم يفرض من أعمال البر أعظم أَجْراً من الجَهْرِ.
* ت *: ونحو هذا لابن العربي لما تكلَّمَ على هذه الآية، قال: الأَصْلُ في الأعمال الفرضية الجَهْرُ، والأصل في الأعمال النَّفْلية السِّرُّ، وذلك لما يتطرق إلى النفل من الرِّيَاءِ، والتَّظَاهُر بذلك في الدنيا، والتفاخر على الأصحاب بالأعمال، وقلوب الخَلْقِ جُبِلَتْ بالمَيْلِ إلى أهل الطاعة. انتهى من الأحكام.
وقوله سبحانه: {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المعتدين} يريد في الدعاء، وإن كان اللفظ عامّاً، والاعتداء في الدعاء على وجوه منها: الجَهْرُ الكثير، والصياح، وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم: «أيها النَّاسُ ارْبَعُوا على أَنفُسِكُمْ إِنَّكُمْ لاَ تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلاَ غَائِباً». ومنها: أن يدعو في مُحَالٍ، ونحو هذا من التشطُّط؛ وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قالُّ: «سَيَكُونُ قَوْمٌ يَعْتَدُونَ في الدُّعَاءِ، وحَسْبُ المرء أن يَقُولَ: اللَّهُمَّ إني أَسْأَلُكَ الجَنَّةَ وَمَا قَرَّب إِلَيْهَا من قَوْلٍ، أو عَمَلٍ، وأَعُوذُ بك من النَّارِ، وما قَرَّبَ إلَيْهَا مِنْ قَوْلِ، أو عَمَلٍ». وقال البخاري: {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المعتدين} أي: في الدعاء وغيره. انتهى.
* ت *: قال الخطابي: وليس معنى الاعْتِدَاءِ الإكثار، فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُلِحِّينَ في الدّعاءِ»، وقال: «إِذَا دَعَا أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَكْثرْ، فإنما هُوَ يَسْأَلُ رَبَّهُ» انتهى.
وروى أبو داود في سُنَنَهِ عن عبد اللَّه بن مُغَفَّل، قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: «سَيَكُونُ في هَذِهِ الأُمَّةِ قوم يَعْتَدُونَ في الطُّهْرِ وَالدُّعَاءِ» انتهى.

.تفسير الآية رقم (56):

{وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)}
وقوله سبحانه: {وَلاَ تُفْسِدُواْ في الأرض...} الآية ألفاظها عامة تتضمن كل فَسَادٍ قَلّ أو كثر بعد صَلاَحٍ قل أو كثر، والقَصْدُ بالنهي هو على العموم، وتخصيص شيء دون شَيْءٍ، في هذا تحكم إلا أن يُقَالَ على جهة المثال.
وقوله سبحانه: {وادعوه خَوْفًا وَطَمَعاً} أمر بأن يكون الإنسان في حالة تقرب، وتحرز، وتأميل للَّه عز وجل حتى يَكُونَ الخَوْفُ والرجاء كالجَنَاحَيْنِ للطير يَحْمِلاَنِهِ في طريق استقامة، وإن انفرد أحدهما هَلَكَ الإنسان.
وقد قال كثير من العلماء: ينبغي أن يَغْلِبَ الخَوْفُ الرَّجَاءَ طُولَ الحياة، فإذا جاء المَوْتُ غلب الرَّجَاءُ.
وقد رأى كثير من العلماء أن يكون الخَوْفُ أغلب على المَرْءِ بكثير، وهذا كله طَرِيقُ احتياط، ومنه تَمَنَّى الحسن البصري أَن يَكون الرَّجُل الذي هو آخِرُ مَنْ يدخل الجَنَّةَ، وتمنى سَالِمٌ مولى أبي حذيفة أن يكون من أَصْحَابِ الأَعْرَافِ.
ثم آنسَ سبحانه بقوله: {إِنَّ رَحْمَتَ الله قَرِيبٌ مِّنَ المحسنين}.

.تفسير الآيات (57- 58):

{وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58)}
وقوله سبحانه: {وَهُوَ الذي يُرْسِلُ الرياح بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً...} الآية: هذه آية اعتبار، واستدلال. وقرأ عاصم الرياح بالجَمْعِ، {بُشْراً} بالباء المضمومة والشين الساكنة، وروي عنه {بُشُراً} بضم الباء والشين، ومن جمع الريح في هذه الآية، فهو أسعد؛ وذلك أن الرِّيَاحَ حيث وَقَعَتْ في القرآن فهي مقترنة بالرحمة، كقوله: {وَمِنْ آياته أَن يُرْسِلَ الرياح مبشرات} [الروم: 46] وأكثر ذِكْرِ الريح مفردة إنما هو بقرينة عَذَابٍ، كقوله سبحانه: {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الريح العقيم} [الذاريات: 41] وقد تقدم إيضاح هذا في سورة البقرة.
ومن قرأ في هذه الآية الريح بالإفراد، فإنما يريد به اسْمَ الجِنْسِ، وأيضاً فتقييدها ب بشراً يزيل الاشتراك.
والإِرْسَالُ في الريح هو بمعنى الإجراءِ، والإطلاق، وبُشْرَاً، أي: تَبْشُرُ السحابَ، وأما {بُشُراً} بضم الباء والشين، فجمع بَشِير، كنذير ونُذُور، والرحمة في هذه الآية المَطَرُ، و{بَيْنَ يَدَيْ}، أي: أمام رحمته وقدامها، و{أَقَلَّتْ} معناه: رفعته من الأرض، واسْتَقَلَّتْ به، و{ثِقَالاً} معناه من الماء، والعَرَبُ تَصِفُ السحاب بالثّقَلِ، والرِّيحُ تَسُوقُ السحاب من ورائه فهو سوق حقيقة، والضمير في {سقناه} عائد على السحاب، ووصف البلد بالمَوْتِ استعارة بسبب شعثه وجدوبته.
والضمير في قوله {فَأَنزَلْنَا بِهِ} يحتمل أن يَعُودَ على السحاب، أي منه، ويحتمل أن يعود على البلد، ويحتمل أن يعود على الريح.
وقوله تبارك وتعالى: {كذلك نُخْرِجُ الموتى} يحتمل مقصدين:
أحدهما: أن يراد كهذه القُدْرَةِ العظيمة هي القدرة على إِحْيَاءِ الموتى، وهذا مثال لها.
الثاني: أن يراد أن هكذا نَصْنَعُ بالأموات من نزول المَطَرِ عليهم، حتى يحيوا به، حَسَبَ ما وردت به الآثار، فيكون الكَلاَمُ خبراً لا مثالاً.
وقوله سبحانه: {والبلد الطيب يَخْرُجُ نَبَاتُهُ...} آية مُتَمِّمَةٌ للمعنى الأول في الآية قبلها، معرفة بِعَادَةِ اللَّه سبحانه في إنبات الأرضين، فمن أراد أن يجعلها مِثَالاً لقلب المؤمن، وقلب الكافر، كما هو محكي عن ابن عَبَّاسٍ، ومجاهد، وقتادة، والسدي، فذلك مترتب، لكن أَلْفَاظَ الآية لا تقتضي أن المَثَل قصد به ذلك، والطيب: هو الجَيِّدُ التُّرَابِ الكريمُ الأَرْضِ وخص بإذن ربه مَدْحاً وتشريفاً، وهذا كما تقول لمن تغضُّ منه: أنت كما شَاءَ اللَّه، فهي عبارة تعطي مُبَالَغَةً في مَدْحٍ أو ذم. والخبيث هو السّبَاخُ ونحوها من رَدِيء الأرض.
والنَّكدُ العَسِيرُ القليل. {كذلك نُصَرِّفُ الآيات} أي هكذا نبين الأمور، و{يَشْكُرُونَ} معناه: يؤمنون ويثنون بآلآءِ اللَّه سبحانه.

.تفسير الآيات (59- 64):

{لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (60) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (62) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ (64)}
قوله عز وجل: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إلى قَوْمِهِ فَقَالَ ياقوم اعبدوا الله مَا لَكُم مِّنْ إله غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قَالَ الملأ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضلال مُّبِينٍ قَالَ ياقوم لَيْسَ بِي ضلالة ولكني رَسُولٌ مِّن رَّبِّ العالمين أُبَلِّغُكُمْ رسالات رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ}.
قال الطبري: أقسم اللَّه تعالى أنه أرسل نوحاً، وكذا قال أبو حيان: {لقد} اللام جواب قسم محذوف. انتهى.
و{غَيْرُهُ} بالرفع بَدَلٌ من قوله: {مِّنْ إله}؛ لأنه في موضع رَفْعٍ، ويجوز أن يكون نَعْتاً على الموضع؛ لأن التقدير؛ ما لكم إله غيره، والمَلأُ الجماعة من الأشراف.
قيل: إنهم مأخوذون من أنهم يملؤون النَّفْسَ والعَيْنَ، ويحتمل من أنه إذا تمالؤوا على أَمْر تمّ.
وقولهم: {إِنَّا لَنَرَاكَ} يحتمل من رُؤْيَةِ البصر، ويحتمل من رؤية القَلْبِ، وهو أظهر.
و{فِي ضلال} أي في تَلَفٍ وجهالة بما تسلك.
وقوله: لهم جَوَابٌ عن هذا:
{لَيْسَ بي ضلالة} مبالغة في حُسْنِ الأدب، والإعراض عن الجَفَاءِ منهم، وتناول رفيق، وسعة صدر حَسْبَ ما تقتضيه خُلُقُ النبوءة.
وقوله: {وَلَكِنِّي رَسُولٌ} تعرض لمن يريد النظر، والبَحْثَ، والتأمل في المعجزة.
وقوله عليه السلام: {وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} لفظ مُضَمَّنُهُ الوَعِيد، لاسيما وهم لم يسمعوا قَطُّ بأمة عذبت.
وقوله: {أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ على رَجُلٍ مِّنْكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُواْ وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * فَكَذَّبُوهُ فأنجيناه والذين مَعَهُ فِي الفلك وَأَغْرَقْنَا الذين كَذَّبُواْ بآياتنا إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً عَمِينَ}.
الاستفهام هنا على جِهَةِ التقرير والتوبيخ، وقوله: {على رَجُلٍ مِّنكُمْ} قيل: {على} بمعنى مع.
وقيل: هو على حَذْفِ مضاف، تقديره: على لسان رجل، ويحتمل أن يكون معناه منزَّل على رَجُلٍ منكم؛ إذا كل ما يأتي من اللَّه سبحانه فله حُكْمُ النزول، و{لَعَلَّكُمْ} تَرَجٍّ بحسب حال نوح ومعتقده.
وقوله سبحانه: {فأنجيناه والذين مَعَهُ فِي الفلك...} الآية.
وفي التفسير: إن الذين كانوا مع نوح في السفينة أربعون رَجُلاً.
وقيل: ثمانون رجلاً وثمانون امرأة وقيل: عشرة وقيل: ثمانية. قاله قتادة.
وقيل: سبعة. واللَّه أعلم.
وفي كثير من كتب الحديث؛ التِّرْمذِيِّ وغيره أن جَمِيعَ الخَلْقِ الآن من ذُرِّيَّةِ نوح عليه السلام وقوله: {عَمِينَ} جمع عَمٍ، ويريد عَمِيَّ البَصَائر، وأتى في حديث الشفاعة وغيره أن نُوحاً أَوَّلُ الرسل.